العقارات.. المحرك الصامت للاقتصاد العربي والتحولات الكبرى في المشهد الإقليمي
يُعدّ قطاع العقارات أحد أهم المحركات الاقتصادية في العالم العربي، فهو ليس مجرد نشاط تجاري أو استثماري، بل يمثل البنية التحتية التي تستند عليها مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية.
فمنذ عقود، ارتبطت قوة الاقتصاد العربي بمدى حيوية هذا القطاع، الذي يعكس بشكل مباشر مستوى التنمية والاستقرار السياسي والاجتماعي. ومع التحولات التي شهدتها المنطقة خلال العقدين الماضيين، أصبح العقار ليس فقط وسيلة لتخزين الثروة، بل أداة استراتيجية لإعادة تشكيل المدن واقتصاداتها.
أولاً: العقار كقيمة اقتصادية واستثمارية
يشكل قطاع العقارات ما بين 10 إلى 25% من الناتج المحلي الإجمالي في العديد من الدول العربية، بحسب تقديرات المؤسسات المالية الإقليمية. وتتصدر دول الخليج القائمة، بفضل سياساتها الاقتصادية التي ربطت بين النفط والعقار كمصدرين متكاملين للدخل والاستثمار. فدبي، على سبيل المثال، أصبحت مركزًا عقاريًا عالميًا بفضل سياسات الانفتاح، والاعتماد على المشاريع الفاخرة، والتشريعات الجاذبة للاستثمار الأجنبي.
وفي المقابل، تعتمد دول مثل مصر والمغرب والأردن على قطاع العقارات كأحد أهم أدوات تشغيل العمالة وتحريك السوق المحلي. إذ إن المشاريع السكنية والبنى التحتية تشكل قاعدة لتوسيع الطبقة المتوسطة وتوفير فرص العمل، مما يجعل العقار في هذه الدول مكونًا أساسياً في الخطط التنموية.
ثانياً: العلاقة بين العقارات والنمو الاقتصادي
الارتباط بين نمو العقارات والنشاط الاقتصادي في الدول العربية وثيق للغاية. فعندما ينتعش العقار، تنتعش معه قطاعات مثل المقاولات، ومواد البناء، والخدمات المالية، والنقل، والتجارة الداخلية. وبالعكس، فإن أي ركود في العقارات يؤدي إلى تباطؤ عام في حركة الاقتصاد. وتظهر هذه العلاقة بوضوح في حالات مثل الأزمة المالية العالمية عام 2008، التي أثرت على أسواق الخليج، لكنها سرعان ما تعافت بفضل تدخلات حكومية قوية.
وفي العقد الأخير، شهدت المنطقة العربية موجة جديدة من المشاريع العملاقة مثل “نيوم” في السعودية، والعاصمة الإدارية الجديدة في مصر، والمدينة الجديدة في الكويت، ما جعل العقار يتحول من مجرد سلعة إلى أداة سياسية واقتصادية تعيد رسم الخريطة الحضرية للمنطقة.
ثالثاً: تحديات سوق العقارات العربي
رغم الأهمية الكبيرة للقطاع، إلا أنه يواجه تحديات متراكمة تختلف من دولة إلى أخرى. في بعض الدول، تشكل المضاربات العقارية مشكلة كبيرة، إذ ترفع الأسعار دون أن يقابلها نمو حقيقي في الطلب السكني. بينما تعاني دول أخرى من ضعف التمويل العقاري، أو من القوانين التي تحد من تملك الأجانب.
كما أن عدم توازن العرض والطلب يمثل أزمة متكررة، فهناك فائض في العقارات الفاخرة يقابله عجز في الوحدات السكنية المتوسطة والمنخفضة الدخل. هذه الفجوة تهدد الاستقرار الاجتماعي وتؤثر على القوة الشرائية، خاصة في ظل التضخم العالمي وارتفاع أسعار الفائدة.
رابعاً: التحول نحو الاستدامة والمدن الذكية
تشهد بعض العواصم العربية تحولاً نوعيًا في فلسفة البناء والعمران. فبعد عقود من التوسع الأفقي، بدأ التركيز يتجه نحو الكفاءة والاستدامة، من خلال اعتماد معايير المباني الخضراء والمدن الذكية. الإمارات والسعودية وقطر تتصدر هذه الموجة بفضل مشاريع ضخمة تراعي البعد البيئي والرقمي، وهو ما يعزز مكانة العقار كمحرك للتنمية المستدامة.
في المقابل، لا تزال بعض الدول الفقيرة تواجه تحديات أساسية في توفير السكن اللائق والبنية التحتية، ما يجعل الفجوة العقارية بين شمال وجنوب العالم العربي في اتساع مستمر.
خامساً: تأثير التحولات الاقتصادية العالمية
تأثر العقار العربي خلال السنوات الأخيرة بالمتغيرات العالمية الكبرى، مثل ارتفاع أسعار الفائدة، وتراجع السيولة في الأسواق الدولية، وتذبذب أسعار الطاقة. ورغم ذلك، ظلّ العقار ملاذًا آمنًا نسبيًا لرؤوس الأموال المحلية والإقليمية، خاصة مع تراجع الثقة في بعض الأدوات الاستثمارية الأخرى.
وفي بعض الحالات، أصبح القطاع العقاري وسيلة لتعويض تراجع العائدات النفطية، مثلما حدث في السعودية بعد إطلاق “رؤية 2030”، حيث تم توجيه استثمارات ضخمة إلى البنية التحتية والعمران كجزء من التحول الاقتصادي بعيداً عن النفط.
سادساً: دور التكنولوجيا والتحول الرقمي
لم يعد العقار اليوم قطاعًا تقليديًا يعتمد على الطوب والإسمنت فقط، بل دخلت التكنولوجيا بقوة في قلبه. ظهرت تطبيقات متخصصة لتسويق وبيع العقارات إلكترونيًا، كما بدأت الحكومات في رقمنة سجلات الأراضي والملكية العقارية. وأصبح الذكاء الاصطناعي يلعب دورًا في تحليل الأسواق وتقدير الأسعار، مما جعل القرار الاستثماري أكثر دقة وشفافية.
هذا التحول الرقمي سيساهم في زيادة الكفاءة وتقليل الفساد وتحسين بيئة الأعمال، وهو ما تحتاجه الاقتصادات العربية بشدة في ظل المنافسة الإقليمية.
سابعاً: البعد الاجتماعي للعقار
لا يمكن الحديث عن العقارات بمعزل عن بعدها الاجتماعي. فالسكن هو أحد أهم مؤشرات جودة الحياة، وتوفيره بشكل متوازن يمثل استقرارًا سياسيًا واقتصاديًا. في الدول العربية ذات الكثافة السكانية العالية مثل مصر والمغرب، يمثل ملف الإسكان تحديًا دائمًا للحكومات. أما في دول الخليج، فالمعادلة مختلفة، حيث يتجه التركيز إلى تنويع أنماط السكن لجذب المقيمين والمستثمرين.
وفي كلا الحالتين، يظل العقار مرآة تعكس العدالة الاجتماعية وقدرة الدولة على توزيع الموارد بشكل عادل.
ثامناً: الآفاق المستقبلية
يتجه قطاع العقارات العربي نحو مرحلة جديدة من النضج الاقتصادي، مدفوعًا بالإصلاحات والتشريعات الحديثة، والانفتاح على الاستثمارات الأجنبية. المستقبل يشير إلى أن المدن العربية ستشهد تطورًا سريعًا في الشكل والمضمون، وستصبح بعض العواصم مراكز عقارية عالمية.
لكن التحدي الأكبر يكمن في تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، وبين الطموح العمراني والحفاظ على البيئة. إن العقار العربي في طريقه لأن يصبح ليس فقط محركًا اقتصاديًا، بل مقياسًا لحضارة المنطقة وقدرتها على التحديث المستدام.
المصدر : التحليل مستند إلى دراسات وتقارير اقتصادية عربية ودولية حديثة، منها بيانات البنك الدولي، وصندوق النقد العربي، ومراكز الأبحاث العقارية في الخليج ومصر 2024 – 2025.
الاقتصاد العربي
التعليقات ()