النفط صعودٌ متأنٍّ أم فخٌّ مخفيّ
في لحظةٍ نادرةٍ إذ يرفع تحالفُ دول الإنتاج النفطيّ سقوفَ الإنتاج، ثمّ يعلن عن توقّفٍ مؤقّت للزيادات، يظهر كيف تُمارَس لعبة القوى الكبرى في سوق الطاقة العالميّة.
هذا ما حصل حينما قرّر OPEC+ زيادة الإنتاج بمقدار 137 000 برميل يومياً في ديسمبر 2025، ثمّ الإشارة إلى عدم زيادة أخرى في الربع الأوّل من 2026، وذلك بالرغم من توقّعات بتحسّن الطلب ـ وإن بدرجة أقلّ مما تتوقّعه بعض الجهات.
يتطلّب هذا القرار قراءةً مكثّفة: ما الذي دفع التحالف إلى هذا المنعطف؟ ما الذي يُخبّئه من مخاطر وفرص للمنتجين والمستهلكين؟ في هذا التحليل، سنغوص في خلفيّة القرار، نتبيّن المؤشرات الأساسيّة، ونفكّك تداعياته الإقليمية والعالميّة، مع الوقوف على ما يعنيه للدول المنتجة والمستهلكة على حدّ سواء.
أولاً: خلفيّة القرار ومكوّناته
- زيادة الإنتاج: القرار جاء في سياق زيادات تدريجيّة منذ أبريل 2025، إجمالاً بحوالى 2.9 مليون برميل يومياً.
- توقّف مؤقّت: بالرغم من الرفع، أعلن التحالف تجميد الزيادات الجديدة في الربع الأوّل من 2026، مبرّراً ذلك بتباطؤ موسميّ محتمل، وتوقّعات بعدم بلوغ الطلب ما كانت تتوقعه جهات مثل International Energy Agency (IEA) ـ حيث تتوقّع نموّاً أقل بكثير من توقعات OPEC+.
- إشارات السوق: المحلّلون يرون أن القرار يحمل بعداً نفسياً: رسالة إلى السوق مفادها أن الإنتاج لن يُشحن بلا حدود، ولكن في المقابل ليس تحت سقف القيد الصارم.
ثانياً: ما الذي يُلامَسه القرار؟ المؤشّرات الأساسيّة
تقديرات الطلب: بينما تتوقّع OPEC نموّاً في الطلب بمقدار 1.38 مليون برميل يومياً، فإن IEA تشير إلى 700 000 برميل يومياً فقط، مع احتمال فائض يصل إلى نحو 4 ملايين برميل.
أسعار النفط: بعد فترة من التذبذب، ارتفعت أسعار النفط تبعاً لتوقّف الزيادات، لكن الخشية من فائض مستقبلي ما زالت قائمة.
الطلب الآسيوي: الهند والصين، كأكبر مستهلكين خارجيّين، يستجيبان بحساسيّة للتغيّرات السعرية، مما يجعلهم عوامل مهمّة في التوازن بين العرض والطلب.
ثالثاً: تداعيات القرار إقليمياً وعالمياً
للمنتجين
الدول المعتمدة على النفط مثل بعض دول الخليج تواجه تحدّياً طويل الأمد يتمثّل في تنويع الاقتصاد، لكن قرار OPEC+ يمنحها زخماً قصير الأمد لدعم الإيرادات وتمويل مشروعات التحوّل الاقتصادي.
من جهة أخرى، الاعتماد على أسعار مرتفعة أو استقرار طويل الأمد هو مقامرة، فالفائض المحتمل خلال 2026 قد يضغط الأسعار هبوطاً، مما يُقلّص المردود ويزيد المخاطر المالية.
للمستهلكين والدول المستوردة
الدول التي تستورد النفط ربما تنفّسّت بعض الشيء بسبب توقّف زيادة الإنتاج، ممّا يقلّل احتمال ارتفاع كبير في الأسعار. لكن عدم اليقين يظلّ في الأفق: إذا ظهر تدخل جيو-سياسي أو تعطّل عرض مفاجئ، فإن الأسعار قد ترتفع بسرعة.
الاقتصاد العالمي، الذي يعاني من تباطؤ النمو في بعض المناطق، قد لا يستقبل ارتفاعاً كبيراً في تكلفة الطاقة دون أن يتأثّر بالنموّ والتضخّم.
رابعاً: السيناريوهات المحتملة
سيناريو الحياد: الطلب ينمو ببطء، الإنتاج ثابت، والأسعار تقيم على مستوى مقبول، مما يمنح فترة تبدّل اقتصادية معتدلة للدول.
سيناريو الفائض: الطلب يقلّ أو لا يفي بالترقّب، الإنتاج ثابت أو يزيد، ما يخلق فائضاً يضغط الأسعار نحو الأسفل، ويضع ضغوطاً على الدول النفطية.
سيناريو النزاع/العائق العرضي: جيو-سياسية أو تعطّلات مفاجئة في الإنتاج ترفع الأسعار فجأة، ما يُشعل التضخّم ويضغط على المستهلكين والدول المستوردة.
خامساً: توصيات استراتيجية للدول العربية المنتجة
ضرورة تعزيز التحوّل الاقتصادي: القرار يعطينا نافذة للاستعداد للمستقبل، وليس فرصة للتمدّد على المداخيل النفطية فقط.
استغلال الإيرادات في بناء البنى التحتيّة، التنويع الصناعي، دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسّطة، وتنمية رأس المال البشري.
متابعة متحوّرات الطلب الآسيوي، قوى العرض البديلة، وتطبيق سياسات مرنة لمواجهة تقلبات الأسعار.
الجدير بالذكر أن قرار OPEC+ يبدو قفزة إلى الإيجابيّة، لكنّه ليس إلا جزءاً من لعبة أكبر، حيث يُختبر الصمود الاقتصادي للدول المعتمدة على النفط، وتتبدّل فيه موازين العرض والطلب ببطءٍ لكن بثبات. ما لم تُكبّده الدول بخطط واضحة للتنويع وتحسين الكفاءة والمرونة، فإن الانطلاق اليوم قد يكون محمّلاً بكمٍّ من المخاطر الغاطسة. والدرس واضح: الاقتصاد لا يُدار بالآمال فقط، بل بالاستعداد المسبق والمرونة في التكيّف.
الاقتصاد العربي
التعليقات ()